يحاول الشيطان أن يشغلنا
بأسئلة حول الإله (كيف يكون؟ وكيف يفعل؟ وما هو شكله؟ ولماذا يفعل
كذا؟...الخ) أكثر من إشغاله لنا بأنفسنا و عيوبها ، و تمر علينا وساوس
كثيرة حول هذا وبعضها يكون بشكل عنيف ، لكن منطقياً: هل يحق للمخلوق أن
يفصّل الإله ويحدد ماذا يجب أن يكون و ما لا يجب؟ مع أنه مخلوق وليس بخالق؟
وهل الإله هو من يحاسب المخلوق أم أن المخلوق هو من يحاسب الله على
أفعاله؟ ويقول : لماذا خلق ولماذا لم يخلق ؟ و نحن لا نعرف ولا معنى كلمة
"خلق" ، لأنها بحد ذاتها غيب .. و هل يجب أن نعرف تاريخ الإله حتى نؤمن به؟
مع أنه هو الذي علمنا معنى كلمة "تاريخ" ..! إن هذا إجراء للمنطق البشري
على غير البشري ..
الله هو الذي خلق المنطق وخلق العقل ، إذن هناك غير هذا المنطق وهذا العقل
.. فلنتأمل في هذه النقطة ، لقد كانت كافية بالنسبة لي وأحرقت كل أسئلتي ،
وجعلتني لا أقحم عقلي في شؤون عالم الألوهية {ولا تقف ما ليس لك به علم} ،
لسبب بسيط وهو أن العقل صنع على الأرض في عالم الشهادة ، أما عالم الغيب
فلا تستطيع عقولنا أن تصل إليه لتنظر منطقيته من عدمها أو أخلاقيته من
عدمها {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} .
في حالة إثارة تلك الأسئلة حول الإله نكون ننظر إلى الله كأنه بشر ونحاكمه
بمقاييس البشر ومنطق البشر وأخلاق البشر .. وهذا تجاوزٌ بالعقل عن مجاله ،
علينا أن ننظر إلى الله من الناحية التي يشرق بها علينا ، أي: علاقتنا به ،
فنفكر هل الله يظلمنا الآن؟ وهو ملّكنا حرية الاختيار؟ طبعاً لا ، فمن
يخيـّرك لا يظلمك ، إذن الله ليس ظالماً ، نعم خلقنا دون إرادتنا ، لكنه
خيّرنا ، ولو سألنا هل يخلقنا أم لا ، لما قبلنا أن نموت ، لأننا سنكون
أحياء حين يسألنا ، ولا حي يريد أن يموت .. وهكذا يعمل العقل في فهمنا لله
من خلال العلاقة معه ، لا أن ننزل الله إلى عالم البشرية ونحاكمه كبشر،
فهذا تجاوز عقلي جعلنا نستعمل العقل فيما لا يملك العقل فيه أي معلومة ..
كل الغيب مغيّب عنا : أين الله ؟ لماذا خلق الله الكون ؟ لماذا جعله غير
محدود ؟ لماذا خلق كل هذه الأنواع من الحشرات ؟ لماذا خلقنا واختبرنا ؟
ماذا يستفيد من عبادتنا ؟ ما هي صفات الله ؟ ما هي أشكال الملائكة والجن ؟
كيف يجمع ترابنا ويبعثنا من جديد ؟ العقل لا يعرف مثل هذا .. وهكذا من
الأسئلة الغيبية التي لا جدوى منها . لأن العقل لا يملك فيها مفردات
ومعلومات .. و هنا يتجلى دور الإيمان أكثر من دور العقل في جوانب الغيب ..
قال تعالى: { يؤمنون بالغيب} أي قبل إدراكه بحواسهم وعقولهم ، ولم يقل
يفكرون بالغيب .. وهي الشجاعة في الإيمان الواعي .. علينا أن نعرف أن هذه
الأفكار من وساس الشيطان ، والشيطان عدو يريد أن يزلنا من خلال الأفكار هذه
..
علينا أن نقول رأينا في هذه القضايا لأنفسنا ثم نستعيذ بالله من الشيطان
كلما خطرت ، سنجد أنها تتوارى شيئاً فشيئاً عن الصدارة .. أما معرفة الله
والبحث عن صفاته وهل هو مثل البشر حتى نفهمه؟ وهل له رجل و يد؟... وما إلى
ذلك ، فهذه محاولة فهم عقلي لعالم الغيب ، و هي خطأ في التفكير ، لأن
المنطق السليم ينبني على أسس ومعلومات ، وعالم الغيب لا نملك فيه معلومات
حتى نفكر فيه ، لهذا يكون تفكيرنا في الإله على الطريقة البشرية من باب
التعويض عن فقد المعلومات ، و تتم محاكمته كبشر ناسين أنه إله ، وقد اكتشفت
هذا الخطأ في تفكيري وتفكير المتشككين ، وعرفت أنه مضيعة للوقت ومجلبة
للهم وأنه من الشيطان الذي يبعدنا عن المنطق السليم إلى عالم الجنون ..
إذن كيف نعرف الله ؟ وهو ليس كمثله شيء ؟؟ .. حسناً .. هذا السؤال نوجهه
لأنفسنا فنقول: كيف نعرف البشر؟! هل لأن لهم أرجلاً و أيدي صاروا معروفين
بالنسبة لنا؟! طبعاً لا ، لأننا نخاف من المجنون مع أننا نراه أمامنا بجسمه
له يدين ورجلين ، ولو جُن فجأة أقرب الناس إلينا لولينا منه مذعورين ، مع
أننا ندعي معرفته! .. فالمعرفة بالحواس ليست هي كل المعرفة ..
نحن نعرف الآخرين بما لا يـُعرف ولا يـُرى ، وهو أخلاقهم وعقولهم .. إذن
هذا كلام الله أمامنا ، فلنعرفه من خلال كلامه .. و بكلام أدق : من خلال
"أخلاقه" .. فنحن نحب الرحمة و نعرف الشخص الرحيم ، والله أرحم الراحمين
كما قال عن نفسه ، إذن نعرفه .. وهكذا في صفاته ، فكل الصفات الحسنى له ، و
هذا ليس لأحد من البشر .. إذن إحساسنا يعرفه أكثر من البشر ، وهذا ما قصده
القرآن بقوله "المعروف والمنكر" ، ولنلاحظ أن القرآن سماه "المعروف" بـ
(ال) التعريف ، أي: الوحيد المعروف ، نستطيع تلخيصه بالحق والخير والجمال ،
هذا ما نعرفه فقط .. سواء بعقولنا مع إحساسنا كالحقائق العلمية ، أو
بإحساسنا قبل عقولنا كالخير والجمال ، وهذا يدلنا على أن المعرفة موجودة في
الإحساس .. إذن نستطيع وبسهولة أن نعرف الله دون الحاجة لاستعمال الحواس
..
الملاحدة والمتشككون لو رأوا الله جهرة لن يعرفوه ، لأن وسيلتهم التي
اعتمدوا عليها ناقصة ، وهي العقل والحواس . نلاحظ أنه يأتي أحد بعيد عن
حياتنا وربما يفهمنا أكثر وأسرع من أمنا وأبينا ، ترى على ماذا اعتمد حتى
فهمنا هذا الفهم؟ رغم أنه قد لا يعرف أسماءنا بالكامل ولم ير أشكالنا..!
إذن نستطيع بإحساسنا أن نعرف الله بوضوح ، بل إنه سيعرِّفنا بنفسه ، فقط
إذا بحثنا عنه بمحبة ، قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم فلا
يستعجلون}..
إن غياب الله أو تشويش وجوده في حياتنا يجعلنا مشوشين، لماذا؟ لأننا نكون
بعيدين عن إحساسنا الذي هو وسيلة المعرفة وليس العقل الذي ليس إلا وسيلة من
وسائل الشعور .. ومن يفتقد إشعاع إحساسه فسيفتقد معرفة الله، قال تعالى:
{نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أي نسوا إحساسهم الذي يميزون من خلاله الأمور
.. اقترب من نفسك تقترب من الله ، اقترب من الله تقترب من نفسك ..
إذن تكون لدينا معاناة من إقحام العقلانية في الأمور المعنوية، بينما العقل
أفضل ما يكون في الأمور المادية، و الإحساس في الأمور المعنوية والغيبية
.. المشكلة إذا العقل سيطر على الإحساس و غمته .. لابد أن يتفجر الإحساس
ويستريح العقل بعض الشيء ويأخذ مكانه الطبيعي وراء الإحساس وليس أمامه ..
وخادماً للشعور وليس العكس . هذا هو الوضع الطبيعي للعقل : لا أحد يؤمن من
خلال عقله ، بل بقلبه ، ولا أحد يقطع الشارع بين السيارات بقلبه فقط ، بل
بعقله وحواسه ..
من يشتكي من عدم الجزم بشيء ، هو بسبب أنه يستخدم وسيلة وحيدة وهي العقل في
أمور ليست مادية ، بينما إذا أنصفنا إحساسنا سنجد أننا نتجه إلى الجزم
والحسم، وما ينتجه ذلك من راحة ، قال تعالى: {فهم في شك منه مريب} أي غير
مرتاحين ولا راسين على بر .. كل معارف الشعور قطعية ونهائية ولا تقبل
الاحتمالين ، لهذا أنصح بها ، فإذا كنت خائفاً في موقف ما ، تجد أنك لا تشك
أبداً هل أنت خائف أم لا ، وإذا أحسست بالجوع لا تشك أبداً هل أنت جائع أم
لا..! ومثلها إذا قال إحساسك أن هذا الشخص طيب أو ذاك ، ستكون معرفة جزمية
قطعية لا يتطرق إليها الشك إلا إذا تركنا الشعور واتجهنا إلى العقل ،
حينها سيقول العقل ببطئه و كثرة أسئلته : ما الذي يثبت أنه طيب؟ وهل ما قام
به يكفي لأن أسميه طيباً؟ وهل لو كان في ظروف أخرى سيفعل معي نفس ما فعل؟
ومن يضمن أنه سيستمر أو ينقلب؟ إذن لا أثق حتى الآن أنه طيب .. وسأبقى
متشككاً فيه .. في حين أن الشعور حكم عليه وانتهى الأمر وبسرعة ..
إقحام العقل في المعنويات دون سماع صوت الشعور يؤدي إلى البلادة والريب
والتردد وصعوبة اتخاذ القرار، لأن العقل استخدم في غير مجاله ، وفضل على
صاحب المجال .. نحن بسرعة نشعر بجمال الحديقة ، لكن العقل لا يستطيع أن
يحدد بالضبط لماذا هي جميلة .. غياب الشعور من حياتنا يحولها إلى آلية
عقلانية كليلة و بطيئة ومنصرفة إلى المادة ..
العقل الذي يخدم الشعور هو العقل المفيد والذي يثبـّت الشعور ويقدم الأدلة
له وهو الذي يساعدنا على السعادة والاطمئنان ، لأن السعادة تنبع من الداخل
.. لا شك أن إحساسنا يعرف أن الله موجود ، لأن العقل لا يملك بديلاً مقنعاً
عن ذلك ، وإن كان يملك أن يتشكك كعادته في عدم الحسم ، أيهما الأفضل
والأشجع والأجمل: من يستجيب لشعوره بعقله ، أم من يستجيب لعقله على حساب
شعوره؟
تخيل صديقاً لاحظك بإحساسه وعرف بسرعة أنك طيب وبحاجة إلى من يقف معك
ويعطيك الأمان لتفتح قلبك، ثم استجاب عقله لإحساسه عنك ، ألن تقول عنه أنه
رائع وذكي ولمـّاح؟ لماذا هو كذلك؟ لأنه مؤمن، آمن بإحساسه عنك واستجاب
عقله وخضع لإحساسه وعمل خادماً عنده .. ولكن لو أنه تشكك في إحساسه وقال:
من يضمن أنه ليس متكبر ؟ ومن يؤكد أنه فعلاً يبحث عن صديق ، وكيف أتأكد أنه
لن يكشر في وجهي؟ وهكذا سيبقى متردداً .. ولن تقول عنه أنه رائع ولا ذكي
ولا طيب . هذا هو الفرق بين المؤمن والمتشكك : الإيمان ذكاء وسرعة وطيبة
وجمال ، والاستجابة للشكوك بطء و بلادة وفقدان للجمال وضياع للفرص بدون
الوصول إلى نتيجة ..
لابد أن نكون شجعاناً ، فالشجاعة أجمل من الجبن {فإذا عزمت فتوكل على الله}
أي: بلا تردد ، أما الإصغاء للشكوك فالشكوك لا نهاية لها ولا حد يوقفها ..
و ستكون حياتنا بئيسة وجبانة وخالية من الجمال و مليئة بشك مريب خائف متعب
، يفقدنا طعم السعادة .. إحساسك يقول أن الله خيـّر وجميل وعادل ، وعقلك
يؤيد ذلك ، انطلق من هنا بلا تردد ، وأحب الخير والحق والجمال ، و أحب الله
يحبك ، حتى لو لم تره بيدين و رجلين ، لأننا عرفنا أن الرؤية لا تكفي
للمعرفة..
أتمنى أن نتأمل هذا ، والتأمل معناه أن يعمل إحساسك ويتبعه عقلك ، ولا ننظر
إليه بعقل مجرد فقط ، لأن العقل سيقول : هذا كلام عاطفي ليس فيه أدلة
مادية من النوع الذي أريده ..
الله جميل وعظيم وفي عالم الغيب ، هكذا ننظر إليه ،، الله لا يظلم أحداً
وهو فاضل ، أما لماذا خلقنا وهو يعلم بذنوبنا فهذا لا يخرجه عن نطاق
الفضيلة لأنه لم يلزمنا بالشر وحذرنا منه ، أما لماذا خلقنا فهذا سؤال من
عالم الغيب ، مثل سؤال من أين جاء الله؟ ومثل: لماذا خلق الله الكواكب وهي
خالية؟ إنها أسئلة بشرية غبية تتعلق بقضية الإسكان التي تعاني منها البشرية
.. عالم الغيب شيء آخر ، هكذا يجب أن ننظر إليه ..
وما دام أن العقل أخبرنا أن الله موجود وأنه عادل وأنه خيـّر و محب ويكافئ
الطيبين ويعاقب المسيئين .. وأنه لا يحدث أي شيء إلا بعلمه و إذنه ، يكفي
العقل هنا ، وعليه أن يلتفت إلينا وإلى عيوبنا .. فهي أجدى باهتمامنا ..
وأنبه إلى أن الفلاسفة الماديين والملحدين ليسوا بالصورة العقلية التي
يحبون أن يكونوا فيها ، شخصياً اكتشفت غباءهم وضحكت من عقولهم كثيراً، وأنا
مصدوم حقيقة بضحالة عقولهم، وإن كانت لهم أسماء مشهورة .. لأنهم مساكين
يعتمدون على الأفكار المادية فقط و يهملون الإنسان في داخلهم .. كل هذا
لأجل أن ينغمسوا في السعادة كما يتصورون ، لكن الشيطان يقودهم إلى المتاعب
والكآبة ..
أول خطوات الشيطان هي المادية .. لأنها ظلم للنفس ، فنحن لسنا مادة فقط ،
ولهذا سمى الله الكافرين بـ "ظالمي أنفسهم" ، لأنهم يظلمون الإنسان في
داخلهم على حساب الكيان المادي للإنسان وكأنه الشيء الوحيد الموجود ،
{يخادعون الله وما يخدعون إلا أنفسهم} ، ولعمري إن طريق الشيطان هو طريق
الغباء والجنون ..
الشيطان يجعلهم يفقدون المنطقية ، ومن فقد المنطق فقد العقل .. ولا عقل إلا مع الإيمان بالله ..
((كتبه الورّاق، وجزى الله خيراً من نقله دون اجنزاء مع ذكر المصدر: مدونة الورّاق))